في زحمة السياسة ومعاركها "العنيفة"، وجد أهل السنة بإيران في الثقافة إكسيرا للانسجام والتوافق بين مكونات النسيج المجتمعي، فاختاروا رمز الإنسانية "محمد رسول السلام" عنوانا لمؤتمر جماهيري حاشد شهدته العاصمة الإيرانية طهران مساء الجمعة الماضي. نظمت جماعة الدعوة والإصلاح السنية -التي تتخذ من طهران مقرا مركزيا لها- هذا الاحتفال الضخم بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، وحضره جمع غفير من المواطنين السنة ودعاتهم وعلمائهم البارزين في العاصمة، ومسؤولون إيرانيون بينهم عدد كبير من النواب الشيعة في البرلمان الإيراني، وكذلك ممثل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في إيران الدكتور خالد القدومي. يقول الدكتور لقمان ستودة مسؤول تنظيم هذا المهرجان إنه الثالث من نوعه الذي يستهدف بناء جسور التواصل المجتمعي بين المواطنين السنة في العاصمة الإيرانية من جهة، ومع النخبة والمثقفين الشيعة من جهة أخرى. وعن سر اختيار عنوان "محمد رسول السلام" للاحتفال يؤكد ستودة للجزيرة نت "وجدنا أنه من الضروري التذكير برسالة السلام وتأليف القلوب التي جاء بها نبينا، لأننا على قناعة بأن الرسول غريب اليوم بين أتباعه أكثر من أي وقت مضى، لذلك تفشت الفرقة والتشرذم بين المسلمين، حيث يعملون بعضهم ضد بعض ليلا ونهارا". من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف (الجزيرة) هذا المهرجان الشعبي حمل رسائل داخلية أيضا، يقول عنها النائب السني السابق في البرلمان الإيراني أحمد بهرامي إنها تأتي تأكيدا على أن السنة جزء أصيل من الهوية السكانية للعاصمة الإيرانية، وأنهم فخورون بهويتهم المذهبية ويحافظون عليها. ويضيف بهرامي أن طهران على مدى القرون الخمسة الماضية لم تشهد مثل هذه الاحتفالات السنية، وأن تنظيم هذه المهرجانات بعد هذه القرون المتتالية تبرز وجودهم القوي من جهة، وتعزز روح الانتماء لدى السنة لوطنهم من جهة أخرى. ثقل انتخابي يذكر أنه بعد مجيء الصفويين وما حلّ بالسنة الذين كانت إيران خاضعة لسلطتهم قبل ذلك، أصبح يقتصر الوجود السني في البلد غالبا على امتداد حدودها شمالا وشرقا وجنوبا وغربا. وكان السنة بعيدين عن العاصمة طهران، ولعل ذلك كان من أسباب حرمانهم من المشاركة في السلطة المركزية إلى جانب عوامل أخرى سياسية ومذهبية. إلا أنهم منذ بداية القرن العشرين الميلادي خاصة بعد العهد البهلوي الثاني وخلال العقود الأربعة الماضية، أصبحوا يهاجرون إلى طهران وأريافها بكثافة بحثا عن العمل والتعليم في الجامعات المرموقة بالعاصمة. وحسب مصادر غير رسمية، يعيش اليوم قرابة مليون مواطن سني في طهران وأريافها، وهم جزء من النسيج السني الإيراني البالغ عددهم 15 مليون نسمة وفقا لتلك المصادر، يتوزعون في 15 محافظة إيرانية من أصل 31 محافظة بما فيها العاصمة طهران، في بعض تلك المحافظات يشكلون 90% من عدد سكانها وفي أخرى لا تتجاوز نسبتهم 10%. عرض موسيقي في الاحتفالية (الجزيرة) وحظي الوجود السني في طهران باهتمام كبير من قبل النخبة الشيعية، ولا سيما في المواسم الانتخابية، سواء الرئاسية أو البرلمانية أو المجالس المحلية والبلديات، حيث يشكل مصلى صادقية الشهير لأهل السنة وجهة رئيسية للمرشحين، وقد زاره في تلك المواسم عدد من النواب الحاليين عن طهران في البرلمان الإيراني، على رأسهم علي مطهري نائب رئيس المجلس، وكذلك أعضاء في مجلس بلدية طهران. كما أن السنة نظموا أكبر مظاهرة انتخابية لهم في طهران عام 2017 خلال الحملات الانتخابية لانتخابات الرئاسة الأخيرة التي فاز فيها روحاني بولاية ثانية، حضرها نائبه إسحق جهانغيري. تحديات عدة وثمة تحديات ومشاكل يواجهها السنة في العاصمة الإيرانية، وهي متراكمة منذ عقود مديدة سواء قبل ثورة 1979 أو بعدها، منها أنهم ليسوا مستقرين في حارات ومناطق محددة، مما جعل من الصعوبة بمكان التواصل بينهم، في ظل مساحة طهران الشاسعة، وكذلك انشغالاتهم اليومية التي تفرضها ظروف طهران المعيشية. كما أن انعدام مساجد أو مسجد للسنة في طهران بسبب عدم الموافقة على بنائه رسميا زاد من مشاكل السنة في طهران، مما دفعهم إلى أداء صلوات الجمعة وإحياء مناسباتهم الدينية في مصليات يصل عددها إلى العشرين. صلاة الجمعة في مصلى صادقية الشهير في غرب العاصمة طهران الذي يقصده المرشحون في الانتخابات الإيرانية أثناء حملاتهم الانتخابية (الجزيرة) وينتقد علي مطهري -وهو نائب رئيس البرلمان- المعروف بمواقف جريئة، خلو طهران من مسجد لأهل السنة، بقوله "وجود مثل هذا المسجد مطروح منذ سنوات، وأنا أعارض عدم وجوده، فيجب أن يكون للسنة مسجد خاص بهم". وتعمل هذه المصليات بموافقة ضمنية غير مرخصة رسميا، لكن أحيانا يغلق بعضها لأسباب غير معروفة، منها مصليا "بونك" ومصلى "رسالت". مظلات ثقافية ويفتقر السنة في طهران إلى مظلات ثقافية ودينية جامعة ترعى شؤونهم وتحافظ على هويتهم، خاصة كما تقول مصادر من السنة أن الأطفال السنة بحاجة ماسة اليوم إلى مؤسسات ثقافية يتعلمون فيها التعاليم الإسلامية على مذاهبهم. ومع ذلك تحاول دار المصطفى لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم -وهي مؤسسة مرخصة رسميا- أن تسد هذا الفراغ قدر المستطاع، حسب تلك المصادر. جماعة الدعوة والإصلاح السنية نظمت الاحتفالية (الجزيرة) ورغم تلك التحديات، يتحدث الناشط السني في طهران جمال إسماعيلي عن انفتاح السلطات المحلية بالعاصمة نسبيا على السنةفي السنوات الماضية، وعلى رأسها المجلس البلدي وبلدية طهران التي يسيطر عليها الإصلاحيون، حيث إن هناك علاقات آخذة في التزايد مع هذه السلطات ويؤكد إسماعيلي للجزيرة نت أنه رغم المضايقات الرسمية لا توجد مشاكل تذكر بين المواطنين السنة والشيعة في العاصمة، "بل تجدونهم جيرانا في شقق متلاصقة بعمارة واحدة بلا حساسية للوجود السني في طهران لدى المواطنين الشيعة". المصدر : الجزيرة
الآراء